د. زيد حمزة
قبل خمسة اعوام كتبتُ عن العالم الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ وعن شجاعته في اتخاذ قراره بعدم المشاركة في المؤتمر العلمي العالمي الذي دعته اليه الجامعة العبرية في القدس وذلك احتجاحاً على دور الاكاديميا الاسرائيلية في دعم الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية والقيام بابحاث لاستنباط وسائل مبتكرة يستخدمها جيش ((الدفاع)) في قمع الشعب الفلسطيني ويعود الفضل لحركة ال BDS التي يقودها أكاديميون فلسطينيون في تعريف هوكنغ بهذا الدور المشبوه إذ شكّل قراره يومئذ احدى نجاحاتها وهي تدعو منذ تأسيسها قبل عشر سنوات (2005) لمقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها وتنشط بشكل رئيسي في اوساط الجامعات واتحادات اساتذتها وطلابها وكذلك النقابات العمالية ومجالس بلديات المدن في مختلف انحاء العالم.. وكان الفضل الثاني للعالم والمفكر الاميركي الحر ناعوم شومسكي الذي يؤيد حركة ال BDS فقد شجع هوكنغ على اتخاذ قراره برفض الدعوة كما حثه على ذلك عدد من الجامعات البريطانية التي قاطعت المؤتمر((... وقد أحدث قرار هوكنغ هزة كبيرة في الاوساط الاسرائيلية التي لم تجد ما تعبر به عن سخطها على العالم الشجاع سوى التنديد به واتهامه بالخضوع للابتزاز الفلسطيني (كذا)..)) وانهيت كلامي يومئذ بالقول (( أخجل من موقف جامعاتنا العربية التي لبعضها علاقات بحثية (!) مع الجامعات الاسرائيلية))..
قبل اسبوع (14 /3 /2018) رحل العالم الشجاع الذي ولد في اكسفورد عام 1942 وأصبح فيما بعد استاذاً للرياضيات في جامعة كامبردج بين عامي 1979 و 2009 ومن اشهر مؤلفاته كتاب ((التاريخ الموجز للزمن)) وبالطبع لم يكن رحيله مفاجئاً فهو مصاب منذ خمسين عاماً بمرض عصبي لا علاج له يشل جميع عضلات الجسم تدريجياً بما في ذلك عضلات الاوتار الصوتية ولم يكن اشد الاطباء تفاؤلاً يعتقد أنه سوف يعيش الى اليوم ! وهو الذي كان يردد ((أنا لا أخشى الموت لكني لست على عجلة من امري فلديّ اشياء كثيرة أقوم بها)) وهو العالم الذي يذكرنا بعباقرة العلوم عبر التاريخ من أمثال غاليليو ونيوتن واينشتاين، ومن المعروف انه كان منهمكاً في الفهم الكامل للكون بالجمع بين نظرية النسبية ونظرية (الكوانتوم) الكمية لتفسير نشوئه وكيفية عمله وشغلته كثيراً الثقوب السوداء. ولقد قال ذات مرة ((أنظرُ الى الدماغ البشري على انه جهاز كومبيوتر يتوقف عن العمل عندما تتوقف مكوناته، فليس للحواسيب المتعطلة جنة ولا حياة لها بعد الموت، هذه قصة خيالية للاشخاص الذين يخافون من العتمة ! ))، وعلى الصعيد العام عارض الحرب على العراق وسخر من رعونة ترامب ونبه من اخطار الاحتباس الحراري على بيئة الكره الارضية.
تذكرنا آراء هذا العالم بما زخر به بعض تاريخنا من اسماء مشابهة كان لاصحابها من العلماء العرب الافذاذ مواقف سياسية او فكرية من القضايا التي سادت عصورهم القديمة التي عانوا فيها ما عانوا من انكارِ نظرياتهم أو جحدِ جهودهم، أو ما لاقوا من اضطهاد الخلفاء والسلاطين حين كانوا يعارضون سياستهم أو يرفضون الخضوع والطاعة لهم ولعل اول من يخطر على البال من تلك الاسماء هو ابن رشد الذي أُحرقت كتبه وحُرم العرب من كنوزها لكن اوروبا استفادت مما هُرِّب اليها منها، كما تستفزنا مواقف الراحل هوكنغ فنتساءل لماذا كثير من علمائنا المعاصرين ظلوا حبيسي ابراجهم العاجية فلم يشاركوا الناس تطلعهم للعدالة الاجتماعية حتى لا يخرقوا مبادئ الحياد الاكاديمي! ولم ينخرطوا في النشاط السياسي بدعوى انه قد يشوه نشاطهم العلمي ولم يشاركوا في مناقشة العقائد المتعلقة بالكون والوجود على اسس علمية بحتة هم اكثر من يجيدون الاستناد اليها للعمل على انقاذ مجتمعاتهم التي غرقت في لجة الجهل أو الجهالة وانزلقت الى هاوية التعصب وغاصت في مستنقعات الارهاب وذلك بحجة الخوف من اتهامهم بالكفر والزندقة!
وبعد.. فمن العار – في نظري – أن يتخذ علماء الشرق والغرب في عصرنا الراهن مواقف جريئة تجاه القضايا العامة، السياسية منها والفكرية، ولا نرى بالمقابل علماءنا العرب في الفلك والرياضيات والفيزياء والفلسفة يخوضون غمار مثل هذه المعارك مع أن بعضها متعلقة بهذه العلوم ولها مساس شديد بحياة المواطنين وطرائق تفكيرهم التي تقودهم احيانا الى اعتناق مبادئ قد تسوؤهم كالعنف والارهاب حين لا يفهمون مثلاً ابسط الحقائق العلمية عن الكون!!